جماليات المنفى في الفن العراقي اليوم

المقاله تحت باب  محور النقد
في 
28/10/2012 06:00 AM
GMT



الهجرة، الغربة، الحنين، المنفى، موضوعات أثيرة للفنان التشكيلي العراقي، تمهر عناوين العديد من المعارض الفنية التي يقيمها، خارج وطنه، وفي بلدان الاستقبال الجديدة، بدءا بوصفه كائنا مهاجرا ومغتربا ومنفيا، باعتبار أن وطنه الذي أصبح على حافة الهلاك لم يعد بالنسبة إليه سوى رؤية مستعادة، مفعمة بالجمال والذكرى.
 
هكذا يتاح الوقت للفنان المهاجر كي يطلَ من مكانه البعيد، هناك، على أسئلة مختلفة ينبئ التفكير فيها والبحث فيها عن تحولات شديدة المغايرة في المشهد التشكيلي العراقي. 

ثمة أسباب عدة، وحتى أعذار مختلفة للهجرة عن الأوطان واختيار المنافي. الفنانون العراقيون كان لديهم سبب واحد: لقد أيقنوا أن الجمال غادر موطنهم، وليس من حرية متاحة فيه إلا حرية الرحيل. هكذا يحملون لوحاتهم ويمضون الى الشتات ليبدأوا من هناك، من المنافي، في إعادة تمثيل أحلامهم.
كتاب "الفن في العراق اليوم" شهادة تقرأ وتوثَق تجارب ستة عشر فنانا عراقيا من الذين يقيمون خارج وطنهم، ومن أجيال فنية مختلفة متنوعة في "إقامتها الجغرافية". كشفت عنها سلسلة معارض جماعية، أقيمت على التتابع في "غاليري ميم – أبو ظبي"، 2010-2011. الكتاب جامع لهذه التجارب، لكنه أيضا يؤسس لموضوعة لم يتم تناولها بصورة متماسكة، إلا من بعض قراءات نقدية نشرت في أماكن ومناسبات عدة، معنية بجدلية العلاقة وتجلياتها بين الفنان العراقي والمنفى.


الاختيار للفنان ضياء العزاوي وللمشرف العام على الغاليري تشارلز بوكوك. هذان ارتأيا أن الفنانين الستة عشر هم الأكثر فاعلية الآن في محاولة تطوير حركة الحداثة الفنية في العراق، ومن الذين دفعوا "مساحة التعبير الفني بتفاعلاتها الجمالية والتقنية الى حدود المعاصرة في التجربة العالمية"، على قول العزاوي، الذي لا يتجاهل في إشارته، كذلك، مساهمات فنية أخرى لعشرات الفنانين العراقيين الآخرين في
المهجر.

تجارب فنية بمرجعيات مختلفة وممارسات أسلوبية متنوعة في حضورها التعبيري وقدرتها الفنية والجمالية، تضم اللوحات المسندية، والفوتوغرافيا، والمجسمات، والفن الرقمي، والتنصيب، ودفاتر الرسم. كما تتعدد فيها الانشغالات التجريبية والممارسات التشكيلية، عبر استخدامها خامات ووسائط وتقنيات فنية متنوعة، وتمثلها موضوعات ورؤى متعددة تتناول فيها خبرات الأثر التراثي والمحلي، والحكايات، والذاكرة، والانشغال بالإنساني، وحتى الاهتمام بما هو يومي وسياسي.

مشروع الكتاب وعنوانه، تحية لمقالة أساسية في وثائق الخطاب الفني العراقي، كان كتبها الروائي والناقد الراحل جبرا إبرهيم جبرا في العام 1961، باللغة الانكليزية، عنوانها "الفن في العراق اليوم"، ويجيء التذكير بها جرّاء تعرض بيته في حي المنصور للتدمير 2010 في أحد الانفجارات الغامضة التي تهز بغداد، وهي استعارة عن حدث لا يخلو من رمزية ويشير الى حقيقة ما آل إليه الوضع العراقي في الحاضر.

في محاضرته تلك كان جبرا قد قدم لبدايات الجهد التأسيسي في الفن العراقي الحديث، واقترح قراءة خصائصه عبر ولع الفنان العراقي بموقف حضاري يعتبر التراث قوة خلاقة تديم أصالة التجربة الفنية وموقفها الجمالي، حيث "التنقيب في الشرائح التاريخية عن تراث واسع وغير متجانس"، "هو عبارة عن تراكمات على مدى أربعين قرنا او نحو ذلك". علاقة لا تتخلى عن تأليف جدلية ذات صلة بالحداثة العالمية أو "التعبير العصري" على وصفه.

يعزو الفنان ضياء العزاوي، في المقدمة التي كتبها، أسباب هجرة الفنانين العراقيين الى تأثيرات الحرب العراقية - الإيرانية في ثمانينات القرن المنصرم، وتبعاتها السياسية والاجتماعية والثقافية. كما الى سنوات الحصار الدولي بعد حرب الخليج الأولى، حتى السنوات الأولى من الاحتلال وما لحقه من ظهور أفعال شائنة وشرسة تمثلت في الطائفية والاقتتال وترويع السلم المجتمعي. ذلك أدى الى هجرات متعددة خلخلت الحركة التشكيلية وتجربتها الفنية داخل العراق، لكنها شكلت، كذلك، من حيث الرؤية الفنية، لحظة تحول بعد عقود انقطاع، خاصة للفنانين الشباب، للتعرف إلى الحركات الفنية المعاصرة والانفتاح عليها، بثرائها وتنوعها في بلدان الاستقبال الغربية خصوصاً، الأمر الذي جعل من كان قادرا من الفنانين على التواصل مع المستجدات بالحضور "بينما اختفى الآخرون من المشهد كليا".  يضمّ الكتاب خمس مقالات لنقاد وباحثين مهتمين في الفن العراقي، تندرج كقراءات نقدية مصاحبة لسلسلة المعارض الجماعية تلك، التي أقيمت في قاعة "ميم".

ترى الكاتبة مي مظفر في مقالتها المعنونة "الغياب والحضور في أعمال مظهر احمد ونديم كوفي وهناء مال الله"، أن نضج التجارب الفنية لجيل الثمانينات الذي ينتمي إليه هؤلاء الفنانين، كان قد تحقق في ظروف الحرب على رغم الأسلوب الشخصي الشديد الوضوح الذي يطبع  حضورها الأسلوبي او الموضوعات التي تتمثلها. تنطوي تجربة الفنان مظهر احمد (أسوج) على انغمار شديد بالحداثة، لكنها تحيد قليلا عن تقاليد الرسم. ثمة ميل الى الفن الاختزالي وولع ظاهر بالتخطيط وحدّ أدنى من تشخيصية مموهة، لكن ثمة افادة قصوى من حساسية المواد الخام، واستلهام شديد الثراء للمعالجة الغرافيكية التي تطبع  لوحاته. فيما يبتعد الفنان نديم كوفي (هولندا) عن تقاليد الرسم عبر ممارسات فنية وبصرية متعددة من فيديو، مجسمات، وفوتوغرافيا. يتعاطى كوفي الانشغال الفني بوصفه فضاء بصريا وتأمليا للأفكار، في محاولة للامساك "باللامرئي من خلال قاعدة بصرية". تختلف الفنانة هناء مال الله (بريطانيا) عن العديد من فناني جيلها بكونها الأقرب الى ارث الفنان الراحل شاكر حسن ال سعيد، عبر تبنيها العديد من أطروحاته النظرية وخبراته التطبيقية والإجرائية في العمل الفني، باعتمادها على نصوص وبناءات اشارية حاملة تمثيلها الرمزي لمقاطع زخرفية من الإرث السومري. تجسد الفنانة في تجاربها الأخيرة آثار الحرب والاحتلال في بلدها، مستفيدة من مخلفات مادية تتحول مادة جاهزة في تأليف أعمالها.

يذكر الشاعر والناقد فاروق يوسف في مقالته التي يعرض فيها لتجارب الرسامين غسان غائب وكريم رسن ونزار يحيى، "رسامو اللحظة الحرجة"، أن خصوصيتهم تتأتى من كونهم ينتمون الى جيل حين "اهتدى الى السلام كان المنفى بديلا من الوطن". هؤلاء بدأوا من شراكة ممكنة بذريعة طرائق فنية مشتركة، بعدما مضوا منذ البدء كي يكونوا تجريديين، منفتحين على طرائق التجريب واستخدام الخامات المتعددة لأجل أن تكون لوحاتهم قادرة على أن تكتفي بذاتها، شاخصة من خلف واقع جمالي بديل، وهي صادرة عنه بطريقة متأملة ومتمردة معا، شديدة الشغف بإضفاء تميزها وتفردها عن تجارب سابقة، حفل بها المشهد التشكيلي العراقي وقتئذ. في تجاربهم الحاضرة معنى آخر، حيث ثمة بحث عما هو مفقود، جاعلة من عملية الالتقاء مع الغربة فعلها البصري الأثير.

 في أعمال الفنان غسان غائب (الاردن) حضور يشير خفية الى المشهد الطبيعي، فهو يستعيد تمثل ما يراه، حتى يبدو السطح التصويري في أعماله قائما على دربة المشاهدة واستحضار المتخيل، لكن بصرامة وغنائية تمتزجان بيسر، ورهان لا يُحَدّ على ما هو فني في الممارسة الأسلوبية. فيما يتخذ الفنان كريم رسن (كندا) من الإرث الرافديني السحيق مفردات تتمظهر بشكل غامض، تكاد أحيانا تكون علامات مفعمة برمزية ذاتية، يهبها دافعها الشخصي جمالية تكاد أن تحيل على بدائية وفعل عفوي يتدفق على سطوح لوحاته. عالم خاص غير قابل للتصنيف، لكنه يشير الى حساسيته التصويرية بأثر مرجعيات مختارة بعناية. بخلاف الفنان نزار يحيى (أميركا) التي تحيا تجربته في فضاء فني مفاهيمي، تعزز خبرته البصرية تقنيات وخامات خاصة يبتكرها الفنان لنفسه. أشكال لوحاته حتى مع حضورها الاشاري واللغوي تفترض حمولة وجدانية كأنها الهدف الأخير لإعماله.

الباحثة الأكاديمية ندى الشبوط في مقالتها "في سياق التسامي"، وهي قراءة لتجارب الفنانين هيمت محمد وعمار دود ودلير شاكر، تحيل تجربة الفنان العراقي المعاصر على خضوعه لمطالب الإرث الفني العراقي الحديث الذي يعتمد على أنماط جمالية وطنية، عدا احتياج أعماله لمضامين تجارب الحروب والسياسة والمنافي. مطالب تؤطّر حرية تعبير هذا الفنان. اتجاهان باتا يشكلان دافعية الرسم في العراق.
ثلاثة فنانين يتقاسمون هموما مشتركة من خلال فعل الرسم الذي تبدو طبيعته من وجود مختلف لا يمكن تحقيقه في الواقع اليومي. يفترض هيمت (فرنسا) أن ارث بلده هو الواقع الحقيقي الذي يمكن تمثله او إعادة ابتكاره، فيما تفترض تجربة الفنان عمار (أسوج) الإنساني طريقة تعبير، بذلك يستمد التأثير الوجداني في أعمال من علاقة المديني بالروحي، والتأكيد المتعدد لحس المنمنمة العربية في تجربته، التي هي عبارة عن محاولة توحّد بين الوطن والمنفى.

تعتبر الكاتبة سمر فاروقي  في مقالتها "إعادة تشكيل الهوية في العراقي الحديث" التي تعرض فيها لتجارب ضياء العزاوي ورافع الناصري وعلي طالب، أن جيل الستينات الذي ينتمي إليه هؤلاء الفنانون كان جيلا طليعيا، وهو الأكثر إثارة للأسئلة والاهتمام بالقضايا الاجتماعية منه قياساً بجيل الرواد، عدا انفتاحه عربيا وإقليميا، وإطلاعه على مصادر فنية عالمية، ما يعزز لديه روح التجريب وتكريس نزعة أسلوبية فردية لافتة.

يهتم الفنان ضياء العزاوي (بريطانيا) بموضوعات ذات بعد سياسي لكنها لا تخلو كذلك من همّ إنساني معلن، فهو من الفنانين الذين تواصلوا في ابتكار أشكال ومضامين من داخل التراث الوطني لبلده، قورنت بأعمال الفنان الراحل جواد سليم. تجربة شديدة الخصوصية والتفرد، وشديدة الانغمار بما هو جمالي وتراجيدي معا. في جوار هذه التجربة، رؤية الفنان رافع الناصري (الاردن)  الاكثر اختلافا من حيث اهتمامها بما هو تأملي ووجداني، حيث يشخص الأفق كتمثيل للبعد الزماني والمكاني في حضوره الروحي، عدا افادة الفنان من مفردات الخط والكتابة ومعالجتهما غرافيكيا. لا تزال تجربته مهتمة تماما باختزاليتها وتركيباتها التبسيطية وحسها التجريدي. فالبعد الحروفي تخذ حضوره بوصفه علامة بصرية كامنة تتضمن هاجس الهوية الثقافية في العمل الفني، وهي تكاد أن تكون انشغالا إنسانيا وروحيا معا. فيما تنطلق تجربة الفنان علي طالب (هولندا) كتجربة شديدة الخصوصية في المشهد التشكيلي العراقي، باتخاذها تجليات الذات وإحالتها على بعد حسي وتصويري، حيث موضوعة الذاكرة، الجسد، الحلم، ثنائية التشخيص والتجريد وموضوعات شديدة التوتر مهتمة بحسها الحاضر، تفترض لبلاغته التصويرية انشغالا بمساحات وفضاءات كي تتسع وتشير الى ثيمة الحلم.

بات من السهل ربط فكرة الهجرة والإحساس بفقدان الوطن كموضوعات حاضرة في أعمال الفنانين العراقيين. هذا ما يذكره الناقد جورج رباط في مقالته "الهجرة، المفهوم، الوطن" عن قراءته لتجارب الفنانين علي جبار، حليم الكريم، محمود العبيدي، وهي على الرغم من تنوع أساليبها واتجاهاتها تظل موضوعة الهجرة رؤية ملازمة لها.
تقترب الأعمال النحتية لعلي جبار (بريطانيا) من روحية الفضاءات المعمارية في انشغالاتها، حيث يتخذ هذا الفنان مادة النحت كسبيل جديد لتعريف العمل الفني، بوصفه أيضا طريقة إبداعية لمواجهة التحولات التي تعصف في العالم ولتجاوزها، وعبر تمييز الرؤية من خلال العمل الفني، وبإدماج ما هو إنساني في المحيط العام. أما أعمال حليم الكريم (هولندا) الفوتوغرافية، فتعتمد ثيمة المرأة كرمز إنساني، يماثلها الإرث السومري الذي ينظر إليها كآلهة محتملة. يظهر وجه هذه المرأة بطريقة مموهة، إلا من تأكيد العين، كبعد مصون وقادر على أن يرى كل شيء. فيما يتخذ الفنان محمود العبيدي (قطر) لحظة استعادة الذاكرة الفردية مبررا لتوثيق أعماله عبر ممكنات التقنية الرقمية.